(أمام مدخل كلية البنات)

تبدو سيدة عجوز تلبس في حِشمة واضحة أثمن مالديها من ثياب، وأثمن مالديها هو أقل بقليل مما تلبسه الطبقة الاجتماعية الوسطى وأعلى مما يلبسه الماكثون في مربع الفقر، تُمسِك جوالاً وتحاول تصوير مشهد على بعد مترين أمامها…

وأمامها يقف مَن يبدو من السياق العام أنه زوجها الذي يبدو أيضاً أنه يزحف بهمةٍ متقاعسة نحو سئم الثمانين حولاً وأمامه تقف ابنته الشابة تلبس عباءة التخرج وقبعتها، وتُمسِكُ بوكيه ورد كبير .

وكانت كلما مالت قليلاً نحو والدها لِتُقبِّل رأسه، سقطت قبعتها، وفي محاولتها الثانية سقطت ايضاً فقامت بالتقاطها بشيء من التأفف، وهي تبدأ المحاولة من جديد لاحظت أن امها لا تمسك الجوال بالشكل الصحيح اقتربت من أمها لتضبط وضعية الجوال في يديها.

وعادت لتقبِّل -أمام الكاميرا- رأس والدها، وتحاول أن تَثبُت قليلا على وضعية تقبيل رأس والدها حتى تستطيع أمها حبس اللحظة ؛ ولكن قبعة التخرج تسقط في محاولتها الثالثة لتقبيل رأس والدها ( امام الكاميرا ) وهي تعتمر قبعة التخرج ،

أخيراً اقتربت السيدة السبعينية كما يبدو من تغضن وجهها وترهل جلد ذراعيها بدعوة من ابنتها (المتخرِّجة)؛ لتقف بجانب زوجها المسن المُنهك الذي اتكأ عليها قليلاً … وأخذت ابنتهما الجوال من والدتها وسلمتها بوكيه الورد امسكت الجوال بإحدى يديها وبيدها الأخرى أمسكت قبعتها وهي تُميلُ رأسها إلى الوراء لتلتقط سلفي مع قبعة التخرج ولوحة الكلية والجزء العلوي من عباءتها ورأس والديها المتعبان دون تقبيلهما بطبيعة الحال…

وفور انتهاء تصويرها أو فعاليات تخرجها ( الخاصة) أمام ( العامة ) همّ والدها بمغادرة بوابة الكلية المزدحمة بالطالبات.

سار والدها في الإتجاه المعاكس لمكان السيارة التي أقلتهما ويفصلها عنهم شارع مزدوج في إتجاهين؛ لكنه ما إن خطا خطوتين متعسرتين جداً حتى اختطفت ابنته ( الخرِّيجة) ذراعه ووضعته في الوجهة الصحيحة وأسلمت ذراعه لأمها دون مرافقتهما لعبور الشارع والرصيف الوسطي وصولاً لسيارتهم المتواضعة في الجانب الآخر من الشارع وعادت تتقبل التهاني من بعض زميلاتها، وتلتقط معهم الصور امام الكلية.

المشهد أعلاه ليس محاولة لكتابة القصة القصيرة؛ لكنه مشهد وقع أمامي فعلاً وأنا أهمّ بإيقاف سيارتي

أمام إحدى الإدارات مقابل الكلية.

حاولت وضع المشهد أمامكم؛ ليكون مدخلاً للحديث عن هذه الظاهرة العجيبة والمقيتة التي تنخر في جسد المجتمع وتُلاحظ بشكل كبير هذه الأيام مع نهاية السنة الدراسية.

وأنا على يقين أن القارئ الكريم قد شاهد مثل هذه المواقف كثيراً لأن نسبة كبيرة من الناس أصبحت تتباها بفعل ذلك للاحتفال بالخريجين، بدايةً من الذين يغادرون مقاعد الطفولة المبكرة إلى مقاعد الدراسة الابتدائية(لكم أن تتخيلوا إن شئتم أنه أصبح للروضة خريجين وفعاليات تقيمها بعض السيدات المتورمات بحب المظاهر أمام بوابات روضات أبنائهن) وحتى الحاصلون على الدرجات العلمية العالية،

ولا خلاف مطلقاً أن الفرح حق للجميع، ولكل شخص الحق في ممارسة فرحه بمنجزِه، ولمن حوله من أسرته إظهار سعادتهم به لكن دون تخطي عتبة الذوق العام، إن كان في مكانٍ عام، ودون أن تُهين قامة أبوين صبّا عرقيهما عنايةً وأملاً ، وتحمَّلا نكد الحياةِ سنيناً ليُلبِساكِ قبعة التخرج ( وأُشدِّد على الكاف المكسورة في يُلبِساكِ – لأنهن غالباً أكثر شغفاً بهكذا ظهور ممجوج ) .

والفعاليات الاحتفالية التي تقيمها بعض الأسر لأبنائها وبناتها أمام بوابات المدارس والجامعات أصبحت في رأيي ظاهرة مُكلِفة ومُتكلّفةٌ جداً فتتكلف بعض الأسر ماتطيق و كثير من الأُسر مالا تطيق لافتعال موقف احتفالي ( مفاجئ في ظاهرة للخرِّيجة ومُعد مسبقاً في واقعه الغالب ) أمام بوابة المقر التعليمي ،

وهي ظاهرة أخشى أنها أصبحت تمثل ثقافة سائدة فالكل يقلد،

والجميع يدخل حلبة المنافسة؛ لصناعة موقف درامي / تراجيدي ( واااو )!!

وكأن التعبير عن الفرح لا يكون محل تقدير وامتنان للمحتفى به ومنه ألا أن يكون أمام البوابة ، وذرفاً للدموع المعدّة مسبقاً والأحضان المبتلّه بماء الوجوه وعلى مشهدٍ من المارة و الغرباء …

ولا يكون مثيراً وجالباً لأحاديث طويلة ومشاهدات ( ترند )

إلا بإرباك الشارع، وإيقاف السير وكسر قلوب الأخريات من اليتيمات أو متواضعاتِ الحال اللاتي يراقبن بحسرةٍ ويمتطين دموعهن المخبئة في محاجرهن لتجاوز الموقف ،

وأما القادرات الواعيات الناضجات الآتيات من أسرٍ قادرة ومترفِعة عن هذه الممارسات العلنية الساذجة فيتجاوزن المشهد بكثير من السخرية والإزدراء لإبطاله.

ثم أن في ظاهرة قيام بعض الأمهات بالاحتفال بالأبناء أو البنات سواء أمام البوابات أو حتى داخل روضاتهم ومدارسهم تكلُّف واضح وأنانية مقيتة تدفع؛ لتشظي الكثير من العلاقات الإنسانية وإظهار الفروقات المجتمعية بين الطالبات وكسر قلوب بعضهن وتُعمِّقُ الفجوة بين مراتب الناس رغم أنه لاداعي لمثل هذه التصرفات إذ تقوم إدارات الروضات والمدارس بعمل احتفالاتها لمنسوبيها ومنسوباتها ممن يغادرون مراحل دراسية ويبدؤون مراحل أعلى وتُفعّل هذه الاحتفالات بشكل مبسط وللجميع ودون فروق أو تمايز بينهم ،

ولا أدري هل الأمهات اللاتي يفعلن ذلك يعلمن أن هناك من لا أُم لها تحتفل بها وهناك الفقيرات اللاتي لايجدن مصروفهن اليومي، وربما تبرعت به معلماتهن، وهل تساءلت تلك الأم المتورِّمه بأي عين كسيرةٍ أو حتى حاسدة يُنظر لها ولابنتها هل فكرت كم قلباً كسرت؟ لِيعتمِر قلب ابنتها بالفرح ،

وفاجأتنا وسائل التواصل الاجتماعي بمشاهد تشوه نفسي وبصري لأمهات إحداهن اعدت احتفالاً امام بوابة روضة ابنتها التي انهت الروضة وقامت على اعين المارة والمتسكعين تقطِّع الكيكات ، او تلك التي احضرت فرقة شعبية وزفّت صغيرتها بالطبول امام زميلاتها امام احدى المدارس ، وكثيرة هي المشاهد المحزنة والساذجة التي تنافسن الفارغات في نشرها وعجّت بها وسائل التواصل ،،

رجاءً توقفوا عن هذه الممارسات المنتفخة بهشاشة عميقة، ومظهرية كاذبة، ومارِسوا أفراحكم ووسِّعوا مظلة الفرح داخل عائلاتكم مع أحبابكم وفي أماكنكم الخاصة في بيوتكم واستراحاتكم ، ..

لا تُكبِّلوا مشاعركم ولكن لا تكسروا قلوب الاخرين، ولا تُحدِثوا الفوضى في الأماكن العامة أو تُمارسوا بفجاجة وتعالى القفز على حريات ومشاعر الآخرين وقيم المحتمع .

رجاءً أفيقوا !!

مارسوا فرحكم بنضج وغادِروا هذا العبث .